كان اسمه رامي محمد.. عمره سبعة عشر عامًا.. كان في طريقه للمنزل
كان يعيش في أحد الأحياء الفقيرة التي لم تسمع شوارعها لفظة: إضاءة.. وكانت هذه النقطة في صالحي.. كان يحمل في يده تلك الأكياس البلاستيكية السوداء التي تشي بأن الفاكهة هي محتواها، و كان هذا لحسن حظي، فهذا لن يعيطه فرصة للمقاومة وأنا لست بالشاب الفتيّ لأصارعه
كان يمرّمن جواري وكله طمأنينة، فمن الذي يقلق من عجوز مثلي يسير بمفرده في ظلام الطريق؟.. لكنه شعر.. في تلك اللحظة الأخيرة في عمره وبعد أن تجاوزني بخطوتين شعر بشيء ما، واستدار تجاهي ليجد يدي تغرس السكين لآخره في صدره، بينما يدي الأخرى تكمم فمه لتمنعه من الصراخ
لثوان تجمدت عيناه الجاحظتان على نظرة مزجت الهلع بالدهشة بالغضب بالألم، ثم تراخت يداه لتسقط الأكياس من يده، قبل أن يسقط هو كصخرة
هكذا يموت الإنسان.. تخرج الروح ولا يتبقى سوى جسد سيبلى في التراب
هكذا لم يعد هناك رامي محمد.. فقط جثة غارقة في الدماء
أمّا أنا فكنت قد أخذت كمًا من الحبوب المهدئة منعني من الذعر.. نعم لقد قتلت إنسانًا، لكني لن أستوعب هذه الحقيقة حتى أعود إلى منزلي
الآن أستعيد السكين لأدسه في ملابسي وأبتعد بسرعة دون أن يشعر بي أحد
الآن أتحول من أب مكلوم إلى قاتل
*******
لكنه لم يكن رامي المطلوب.. عرفت هذا حين زرت قبر ابنتي لأجد قصاصة ورق مكتوب عليها[color=#00ccff]سأذكرك إلى الأبد
-رامي-
إذن فعملي لم ينته.. يتبقى ثلاثة يحملون هذا الاسم.. ثلاثة سينضمون إلى ابنتي في العالم الآخر
[color:a324=#00ff00:a324]*******
قبل أن يتهمني أحدكم بالجنون، أؤكد أنني حاولت كثيرًا معرفة أي رامي الذي يجب أن يموت.. حاولت وسألت صديقات ابنتي وفتشت في أوراقها، لكنني لم أصل لشيء
لهذا دفع رامي غانم الثمن هو الآخر
هذه المرة لم أجد سوى أن أنتظره في غرفة تبديل الملابس في النادي، فلقد كان من الطراز الذي لا يفارقه أصدقاؤه إلا أثناء النوم وفي دورة المياه.. دخول النادي لم يكن صعبًا، لكن الوصول لغرفة الملابس لم يكن هينًا.. المهم أنني فعلتها
كان غارقًا في العرق وعضلاته تئن من مجهود المباراة التي خاضها منذ قليل.. كان هشًا جدًا وكالعادة لم يتوقع من عجوز مثلي شرًا
لا أنكر أنني شعرت بالندم حين تدفقت دماؤه الحارة على يدي بعد أن غرست السكين في عنقه، لكن لا.. كلّما تذكرت مشهد جثة ابنتي تأكدت من أنهم يستحقون
كل من يحملون اسم رامي يستحقون
*******
وكان طبيعيًا أن يلفت نشاطي هذا الانتباه
اثنان في ذات الكلية يقتلان طعنًا وكلاهما يحمل ذات الاسم.. يبدو الأمر مثيرًا للشك
هكذا بدأ الجميع في الحذر، وهكذا بدا أنه سيستحيل عليّ أن أواصل انتقامي
لكني أقسمت ألاّ أتوقف.. تبقى اثنان يحملان ذات الاسم، أحدهما السبب في موت ابنتي، وأنا لن أتركه يعيش ويتخرج ويتزوج ويحظى بالحياة التي حرم ابنتي منها
أبدًا..
لقد كان رامي حسين يعيش بمفرده في شقة صغيرة في إحدى المناطق الراقية.. لقد كان حذرًا فلم يفتح لي الباب حين زرته، بل أخذ يحدثني من وراء الباب بينما أنا أختلق الحجج ليفتح لي، ولم يفعلها إلا حين تظاهرت بأنني أصبت بأزمة قلبية، حينها لم يملك إلا أن يحملني إلى داخل شقته ليتصل بالإسعاف
عجوز مسكين يصاب بأزمة قلبية أمام منزلك.. بالطبع ستساعده.. بالطبع ستعطيه ظهرك وأنت تتصل بالإسعاف.. بالطبع ستشهق ذاهلاً إذا اخترقت سكينته ظهرك، وبالطبع ستكون آخر كلمة ستتنطقها هي: لماذا؟
ثم ستهوي كأي رامي خر
وبهذا تبقى واحد فقط لتنتهي مهمتي.. لينتهي انتقامي
*******
لكن رامي رشاد هرب
هرب.. هرب.. هرب
الوغد الحقير هرب
ترك منزله والكلية واختفى.. هرب
*******
هكذا بدأت وحدتي
بعد أشهر من البحث أصابني اليأس، فانزويت بمفردي في تلك الشقة التي أعيش فيها الآن
كنت أهرب أنا الآخر..
أهرب من الماضي..
ومن الذكريات..
ومن جرائمي..
ومن فش
ولأن النسيان نعمة.. بدأت أنسى
لم يعد معي سوى الوحدة، وكتابي الوحيد أقرأ فيه كل ليلة
مهما طالت الأيام ستنتهي وسأموت هنا دون أن يشعر بي أحد
هذا ما كنت أخطط له
حتى سمعت الخطوات
*******
الآن أنا على السطح والدموع تسيل على وجنتي ببطء.. لقد تذكرت كل شيء
أمّا شبح ابنتي فمد يده تجاهي مرددًا: أبي.. لقد انتهى الأمر
تقولها فأنتبه إلى الجسد الذي تكوم على السطح بلا حراك.. لازلت أذكر هذا الوجه الذي أصبح الآن يحمل شحوب الموت وسخريته
انه رامي رشاد
لكن.. ما الذي أتى به إلى هنا ؟؟
أجابت ابنتي على السؤال دون أن أنطق به: لقد كان يبحث عنك
ربّااااه..
لهذا السبب اختفى.. ليتتبع القاتل الذي يطارده
لأشهر طويلة أخذ يقتفي أثري ويبحث عني ليقتلني قبل أن أقتله، وحين توصّل إلى مخبأي بمعجزة ما بعد عام طويل من البحث، وجد شبح ابنتي في انتظاره
ابنتي.. أنقذتني
غالبت دموعي لأقول بصوت مبحوح: رنا.. أنا.. آسف
لكن شبح ابنتي أخذ يتلاشى ببطء أمامي دون أن تجيب.. وعلى الأرض هوى السكين الذي كان في يدها ليملأ رنين سقوطه المعدني صمت الليل
أنا آسف يا ابنتي -
لكنها تتركني ولا تجيب
الآن أسمع صوت خطوات تصعد إلى السطح.. يبدو أن الجيران على قيد الحياة برغم كل شيء.. سيبلغون السطح الآن ليجدونني جوار جثة رامي وسيجدون السكين الملوّث بدمائه جواري.. إنها النهاية إذن
لكن لا يهم.. لقد انتهت مهمتي ولم أعد أمقت الموت إلى هذه الدرجة
ستكون محاكمة سريعة، بعدها السجن الانفرادي حيث أمارس وحدتي مجددًا
بعدها ستكون المشنقة..
لا بأس.. كل شيء سيكون على ما يرام
الآن أسترخي بينما صوت خطوات الجيران يقترب
.. ويقترب
.. ويقترب
[color=#00ff00]*******
[color:a324=#00ccff:a324]-تمت بحمد الله-