صحيفة الاهرام المصريه الثلاثاء 20 رمضان 1428هـ 2 أكتوبر 2007

صحيفة الاهرام المصريه الثلاثاء 20 رمضان 1428هـ 2 أكتوبر 2007 م
إلـي أيـن نـحـن ذاهبــــــــون؟
بقلم‏:‏ فهمـي هـويـــدي

ثمة كلام عن إعصار سياسي كبير ــ تسونامي ــ سوف يضرب المنطقة في الأجل المنظور‏,‏ يتحدث الإسرائيليون في العلن عن نتائجه واحتمالاته‏,‏ لكني لا أعرف ما إذا كنا قد فكرنا فيه أم لا‏,‏ وكيف؟

‏(1)‏
خلال الأسابيع الأخيرة ظلت أضواء مكاتب وزارة الدفاع الإسرائيلية مضاءة حتي الفجر‏,‏ الأمر الذي جاء دالا علي أمر جلل يجري بحثه وراء الجدران‏.‏ هذا التقديم ليس من عندي‏,‏ ولكن صحيفة يديعوت أحرونوت أوردته في‏8/31.‏ في معرض حديثها عن وثيقة وصفتها بأنها بالغة الخطورة‏,‏ تعلقت بسيناريوهات ما بعد الانسحاب الأمريكي من العراق‏.‏ وأشارت إلي أن الوثيقة قدمت إلي وزير الدفاع إيهود باراك‏,‏ الذي استنفر طاقم وزارته لدراستها‏.‏ وذكرت أن إعدادها استغرق ثلاثة أشهر‏,‏ وأن فرق عمل من خمس جهات شاركت في الإعداد‏.‏ وهذه الجهات هي‏:‏ وزارة الدفاع ــ شعبة الاستخبارات العسكرية ــ قسم التخطيط في الجيش ــ مجلس الأمن القومي ــ وزارة الخارجية‏.‏ وكان السؤال الأساسي الذي طلب من الجميع الإجابة عليه هو‏:‏ كيف سيؤثر الانسحاب الأمريكي من العراق علي المصالح الإستراتيجية لإسرائيل؟ وكانت الإجابة كالتالي‏:‏ إن الانسحاب سوف ينتج عنه تشكل شرق أوسط جديد بكل معني الكلمة‏,‏ يمثل أسوأ احتمال توقعته إسرائيل في يوم من الأيام‏.‏ إذ سيكون الانسحاب بمثابة تسونامي يضرب المنطقة‏.‏
قدرت الوثيقة أن واشنطن حسمت أمرها فيما يتعلق بالانسحاب المبكر من العراق‏.‏ ودللت علي ذلك بقرار الإدارة الأمريكية رفع المساعدات الأمريكية لإسرائيل بشكل كبير‏,‏ بحيث تصل في غضون عقد من الزمان إلي ثلاثين مليار دولار بواقع ثلاثة مليارات كل عام‏.‏ كما استشهدت بصفقة السلاح العملاقة التي وقعتها واشنطن مع السعودية‏,‏ ووصلت قيمتها الي‏20‏ مليار دولار‏.‏ واعتبرت الوثيقة أن هاتين الخطوتين استهدفتا إرضاء الدولتين عقب القرار المتوقع بالانسحاب‏,‏ لمنحهما الإحساس بأنهما ستكونان قادرتين علي مواجهة تبعات تنفيذ هذه الخطوة‏,‏ حيث اعتبرت أن إسرائيل والسعودية ستكونان من أكثر الأطراف تضررا من القرار الأمريكي‏.‏

‏(2)‏
في تقديرها لموقف ما بعد الانسحاب‏,‏ تحدثت الوثيقة عن ثلاثة مكامن للخطر ستنجم عن ذلك هي كالتالي‏:‏
‏
*‏ أولا‏:‏ أن الانسحاب سينظر إليه في العالمين العربي والإسلامي كهزيمة مروعة لأمريكا‏.‏ وسيؤدي بشكل فوري إلي زيادة هائلة في طاقة الحركات الإسلامية الجهادية‏,‏ حيث ستعمل هذه الحركات علي زعزعة أنظمة الحكم العربية المعتدلة في المنطقة‏,‏ إلي جانب تعزيز الأنظمة التي تناصب أمريكا العداء‏.‏ واعتبرت الوثيقة أن أكبر ضرر استراتيجي سيهدد إسرائيل سيكون المس باستقرار نظام الحكم في الأردن الذي تصفه الوثيقة بأنه أهم ذخر استراتيجي لإسرائيل في المنطقة لأنه يمثل الحزام الفاصل بين إسرائيل والهلال الشيعي الذي سيتبلور بعد الانسحاب إلي جانب موقف النظام الأردني الصارم ضد الحركات الإسلامية‏.‏ ومن شأن إحداث أي تغيير هناك أن يحوله إلي ساحة فعل ضد إسرائيل‏,‏ بما يعيدها إلي السنوات الأولي لوجودها‏.‏ وأوصت الوثيقة بالبدء في دعم النظام الأردني وتعزيز قدرته علي الثبات عن طريق تكثيف الدعم الدولي والامريكي لحل مشكلاته الداخلية‏,‏ وعلي رأسها مشكلة المياه‏,‏ مع تعزيز اجهزته الامنية ورفع كفاءتها‏.‏
‏
*‏ ثانيا‏:‏ حذرت الوثيقة من أن الانسحاب سيكون عنصرا مشجعا لقوي المقاومة الفلسطينية وحزب الله علي توجيه ضربات لإسرائيل‏,‏ واعتبرت أن العراق سيعود ليصبح نقطة انطلاق لتنفيذ عمليات إطلاق الصواريخ باتجاه إسرائيل‏,‏ ونوهت إلي أن الأطراف قد تكون معنية بحصول عناصر الحركات الجهادية علي صواريخ بعيدة المدي‏,‏ لكي يكون بوسعهم إطلاقها علي إسرائيل من غرب إيران‏.‏
‏
*‏ ثالثا‏:‏ رأت الوثيقة أن الانسحاب من العراق سيحرر إيران من الضغوط الممارسة عليها حاليا‏,‏ وسيسمح لها بتطوير برنامجها النووي وصولا إلي إنتاج القنبلة النووية‏,‏ في حين أن سوريا ستنجو من الحملة الأمريكية الهادفة إلي تضييق الخناق علي نظام الحكم فيها‏.‏ وتحدد الوثيقة العام‏2009‏ لاستكمال سوريا عملية تحديث جيشها‏,‏ وهو نفس العام الذي يغادر فيها بوش البيت الأبيض‏.‏
غير أن بعض الخبراء الذين يمثلون أقلية في طواقم العمل التي أعدت الوثيقة أشاروا إلي أن الانسحاب الأمريكي قد يشتمل علي تطور إيجابي واحد بالنسبة لإسرائيل‏,‏ فتحدثوا علي أن قادة الجيش الأمريكي في العراق هم الذين يرفضون بشدة قيام الإدارة الأمريكية بمهاجمة إيران وتدمير برنامجها النووي علي اعتبار أن إيران سترد بشن عمليات انتقامية ضد القوات الأمريكية في العراق‏,‏ ورأي هؤلاء الخبراء أن الانسحاب من العراق قد يزيل عقبة كئود أمام تحرك أمريكي عسكري محتمل ضد إيران‏.‏

‏(3)‏
لسنا في وارد مناقشة مدي صواب هذه الاحتمالات‏,‏ لأن ما يهمنا منها في السياق الذي نحن بصدده أمران‏.‏ الأول أن هناك فريق عمل من الخبراء حاول أن يدرس مقدما الاحتمالات المترتبة علي الانسحاب الامريكي وتأثيرها علي المصالح الاستراتيجية الاسرائيلية‏.‏ الأمر الثاني ان الرأي العام الاسرائيلي أحيط علما بتلك الاحتمالات‏.‏ وكان من الطبيعي أن أجري مقارنة بين هذا النمط من التفكير‏,‏ وبين ما يجري عندنا‏,‏ مصريا وعربيا‏.‏ أول ما لاحظته أننا مشغولون بمشاكلنا الداخلية الآنية‏,‏ وأن قضايا المصير الاستراتيجية مغيبة عن الاهتمام العام‏,‏ حتي بين شرائح النخبة‏.‏ وهي الملاحظة التي يرصدها بسهولة أي قاريء للصحف والمجلات او متابع لبرامج التليفزيون والإذاعة في بلد كمصر مثلا‏,‏ الأمر الذي يعكس حالة من الانكفاء علي الذات‏,‏ تري الداخل ولا تري الخارج‏,‏ وتنشغل بهموم الحاضر عن تحديات المستقبل‏.‏

لا أريد أن أقلل من معالجة مشكلات الداخل‏,‏ ذلك ان من شأن تلك المعالجة ـ إذا تكللت بالنجاح ـ أن توفر للوطن قدرا من المناعة والعافية يمكنه من أن يتصدي بقوة لتحديات الخارج‏.‏ لكن الامر ليس بهذا التبسيط لسببين‏,‏ الأول لأن العراك هو العنوان الذي يختزل الحالة في الداخل‏.‏ وهو ما يعني أننا لا نقوي الداخل وإنما نضعفه‏,‏ ونشتت الصف الوطني ولا نحشده‏.‏ السبب الثاني أن المصالح الاستراتيجية لكل بلد ـ أمنها القومي إن شئت الدقة ـ تتوزع علي الداخل والخارج‏.‏ بالتالي فإن رعاية تلك المصالح ينبغي أن تتم علي الجبهتين معا‏.‏ والاهتمام بجبهة دون أخري لا يختلف في شيء عن دفن الرؤوس في الرمال‏,‏ لا يدفع خطرا ولا يصده ولكنه يغمض الأعين عنه‏.‏

أن ثمة حديثا يتداوله المسئولون عن مصر في عام‏2020‏ وعن القاهرة في عام‏2050,‏ ولكن الاول يتحدث عن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية‏,‏ والثاني يتناول التخطيط العمراني‏.‏ لكني لا أعرف أن هناك رؤية متبلورة في الخرائط السياسية سواء في داخل مصر‏,‏ أو في مجالها الحيوي‏,‏ ومحيطها الاستراتيجي‏.‏ وسيكون أمرا غريبا إذا وجدت تلك الاستراتيجية دون ان يعرف الرأي العام شيئا عن ملامحها أو اتجاهاتها‏.‏ وسيكون الأمر أغرب ـ صادما ومفجعا في الحقيقة ـ إذا لم تكن تلك الاستراتيجية موجودة من الأساس‏.‏

‏(4)‏
إن ثمة تحولات مثيرة تتابع من حولنا ولا يستطيع أي محلل تجاهلها‏,‏ لأنها تؤثر علي مصالحنا بصورة مباشرة أو غير مباشرة‏.‏ لا أتحدث فقط عن مشكلات نقص المياه أو التغيرات المناخية وثيقة الصلة بالاحتباس الحراري‏,‏ أو تناقص السكان في العالم المتقدم والانفجار السكاني في العالم النامي‏.‏ ولا أتحدث فقط عن التحولات الحاصلة في الخرائط السياسية‏,‏ متمثلة في أزمة الداخل الامريكي واحتمالات التغيير مع انتخاب رئيس جديد واختفاء الرئيس بوش وفريقه بعد‏18‏ شهرا‏.‏ وظهور مقدمات لحرب باردة جديدة بين الشرق والغرب بعد استعادة روسيا لعافيتها وتصالحها مع الصين وتكوين منظمة شنغهاي تعبيرا عن صعود الدور الآسيوي في مواجهة حلف الناتو‏,‏ وبروز طبعة أخري من المحافظين الجدد في فرنسا بقيادة الثنائي ساركوزي ووزير خارجيته كوشنير‏,‏ وقد كشفا عن وجهيهما السعي للالتحاق بالمركبة الامريكية وفي المزايدة علي الموقف الامريكي إزاء إسرائيل وإيران‏.‏
ما أعنيه ليس فقط هذه التحولات المؤثرة علي مصالحنا وخياراتنا‏,‏ ولكني أنبه إلي تطورات أخري تتصل مباشرة بمصالحنا الحيوية‏,‏ تثيرها الأسئلة التالية‏:‏
‏
*‏ كيف نري احتمالات المستقبل الفلسطيني‏,‏ إذا ما استمر تكريس الانفصال بين الضفة الغربية وغزة‏,‏ واعتبار الاولي كيانا صديقا لاسرائيل والثانية كيانا معاديا لها‏.‏ وهو الفخ الذي وقع فيه الجميع او استدرجوا إليه‏,‏ في حين تتجه إسرائيل لإعادة تحديث جيشها بالكامل خلال خمس سنوات‏,‏ حتي تتجنب تكرار الهزيمة التي لقيتها في لبنان ؟
‏
*‏ إلي أي مدي سوف نتأثر بالانسحاب الأمريكي في العراق‏,‏ مع ما سوف يستصحبه ذلك من تداعيات‏,‏ بعضها يتعلق بزيادة النفوذ الإيراني‏,‏ والبعض الآخر يتعلق باحتمالات تقسيم البلد الي ثلاث دويلات‏,‏ كما يريد الامريكيون‏,‏ اضافة الي سيناريو الحرب الاهلية بين متعصبي الشيعة والسنة ؟
‏
*‏ كيف نتصور النتائج المترتبة علي توجيه ضربة لايران لإجهاض مشروعها النووي‏,‏ الأمر الذي ينصب إسرائيل قوي عظمي وحيدة في الشرق الاوسط‏.‏ وما تأثير ذلك علي منطقة الخليج عمرانيا وبيئيا‏,‏ وعلي موقف الشيعة في العالم العربي‏,‏ وعلي وضع القضية الفلسطينية‏,‏ وكيف سينعكس أثر الضربة علي سوريا ولبنان ؟
‏
*‏ إلي أي مدي يؤثر انفراط الصف العربي علي موقف العالم العربي إزاء مختلف القضايا‏.‏ بوجه أخص كيف يمكن إجهاض محاولات تفتيت المنطقة عبر تقسيم دولها الي معتدلين ترضي عنهم واشنطن واسرائيل‏,‏ ومتطرفين رفع ذلك الرضي عنهم‏.‏ وكيف يمكن احتواء وعلاج التباعد السوري عن مصر والسعودية بحيث لا يضر ذلك بالمصلحة الاستراتيجية العربية ؟
‏
*‏ ما هو موقفنا من التدخل الدولي في درافور واحتمالات انفصال جنوب السودان والسعي الامريكي لاقامة قاعدة عسكرية كبيرة في شمال افريقيا بحجة إقامة مركز للتصدي للارهاب ؟
لا أستبعد ان تكون هناك أسئلة أخري ملحة يغيبها الانكفاء علي الداخل والانشغال بما هو عابر‏.‏ وهذه الاسئلة تشكل مع ما ذكرت حزمة من علامات الاستفهام الحائرة‏,‏ التي تبحث عن إجابات تشبع الرغبة في التعرف علي المسار‏,‏ وتحسس مواضع الخطي‏,‏ وتحديد الاهداف والمقاصد‏.‏ إذ هي مشكلة لا ريب ان تمضي دون ان تعرف إلي أين أنت ذاهب‏,‏ لانك في هذه الحالة ستواجه مشكلة اكبر‏,‏ حيث ستظل معرضا طول الوقت لأن تضل وتشقي‏.