[size=18]التوّسم والفراسة
<hr style="COLOR: #9fbed3" SIZE=1>
من محاضرات الشيخ الفاضل محمد المنجد
.
.
.
التوّسم والفراسة
الفراسة هي الاستدلال بالأمور الظاهرة على الأمور الباطنة، وهي علامة للمؤمن، ولها قسمان، وفي هذا الدرس ترى الكثير من القضاة والعلماء الذين كانت لهم فراسة صادقة، منهم: أبو بكر الصديق.. عمر بن الخطاب.. الشافعي.. القاضي إياس.. وهناك علاقة بين الفراسة وبين تفسير الرؤى، كما أن لها علاقة بالقيافة. والعلماء والقضاة وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توصلوا في كثير من القضايا إلى الحق بالقرائن الظاهرة، وهناك أمثلة كثيرة في هذا.
*******
الفراسة معناها وأقسامها
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فحديثنا في هذه الليلة -أيها الإخوة- عن موضوعٍ فيه شيءٌ من العجب والغرابة ولكنه سمةٌ من سمات المؤمنين، وصفةٌ من صفاتهم ذكرها الله سبحانه وتعالى في كتابه واصفاً بها المؤمنين فقال: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ [الحجر:75]. والتوسم والفراسة من صفات المؤمن، فأما الفراسة: فإنها النظر والتثبت والتأمل في الشيء والبصر به، يقال: تفرست فيه الخير، أي: تعرفته بالظن الصائب، وتفرس في الشيء: أي: توسمه، فالفراسةُ -أيها الإخوة- ناشئة عن جودة القريحة وحدَّة النظر وصفاء الفكر، والفراسة: هي الظن الصائب الناشئ عن تثبيت النظر في الظاهر لإدراك الباطن، والفراسةُ: هي الاستدلال بالأمور الظاهرة على الأمور الخفية، وهي أيضاً ما يقع في القلب بغير نظرٍ وحجة، وقد قسمها ابن الأثير رحمه الله إلى قسمين: الأول: ما دل ظاهر هذا الحديث عليه: (اتقوا فراسة المؤمن) وفي إسناده ضعف ولكن معناه صحيح، إن للمؤمن فراسة، وهو ما يوقعه الله تعالى في قلوب أوليائه فيعلمون أحوال بعض الناس بنوعٍ من الكرامات وإصابة الظن والحدس. الثاني: نوعٌ يتعلم بالدلائل والتجارب والخلق والأخلاق فتعرف به أحوال الناس، وفراسة المؤمن معتبرةٌ شرعاً في الجملة لقوله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ [الحجر:75]. الفراسة: نظر القلب بنورٍ يقع فيه، ويتفرس يعني: يتثبت وينظر، وفي قوله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ [الحجر:75] فيه أن التوسم وهو تفعل من الوسم وهي العلامة التي يستدل بها على مطلوبٍ غيرها، كما قال الشاعر يمدح النبي صلى الله عليه وسلم:
إني توسمت فيك الخير نافلةً والله يعلم أني صادق البصرِ
الفراسة التي هي الاستدلال بالخلق على الخلق، لقد جاءنا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قوله: [أحسن الناس فراسةً ثلاثة: العزيز حين قال لامرأته: أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا، وابنة شعيبٍ حين قالت في موسى: يا أبتي! استأجره، و أبو بكر الصديق حين ولى عمر ] وهذا يحتاج إلى إثبات نسبته إلى هذا الصحابي الجليل فإن مسألة فراسة عزيز مصر في يوسف صحيحة من جهة أنه لم يكن معه علامةٌ ظاهرة، وأما بنت شعيب والراجح أنها بنت رجل صالح ليس بنبي الله شعيب، وإنما هو رجلٌ صالح غير نبي الله شعيب؛ لأن موسى لم يكن معاصراً لشعيب، هذه المرأة كان معها علامة بينة، فأما القوة فعلامتها سقي موسى لغنمها وسط هؤلاء الرعاة، وأما الأمانة فبقوله لها: وكان يوماً رياحاً: امشي خلفي لئلا تصفك الريح بضم ثوبك إليك وأنا لا أنظرُ في أدبار النساء. فلما رأى الريح تكشف ثوبها وهي ماشية أمامه لتدله على بيت أبيها قال: امشي خلفي وانعتي لي الطريق، أما أبو بكر رضي الله عنه، فقد عرف ولاية عمر بالتجربة في الأعمال والمواظبة على الصحبة وطولها.......
***********
أصحاب الفراسة من السلف
فراسة أبي بكر الصديق
وقد كان سلفنا رحمهم الله فيهم من هذه الخصلة شيءٌ كثير، فمن فراسة الصديق حديث عائشة رضي الله عنها قالت: [نحلني أبو بكر رضي الله عنه الجذاذ عشرين وسقاً من ماله بـالعالية ] له نخل شجر منحها جذاذ عشرين وسقاً، الجذاذ: الحصاد أو القطف الذي يحصل للثمر، ولم تقبضه عائشة وحضرت أبا بكر المنية وهبها إذا خرج الثمر يعطيها جذاذ عشرين وسقاً، فلما حضرته المنية حمد الله تعالى وأثنى عليه، ثم قال: [با بنية! إن أحب الناس إلي غنىً أنتِ وأعزهم عليّ فقراً أنتِ وإني كنتُ نحلتك جذاذاً عشرين وسقاً من مالي بـالعالية -منطقة معروفة في المدينة وفيها نخلٌ جيد- وإنك لم تكوني قبضتيه ولا حوزتيه -ومتى تلزم الهبة؟ بالقبض: بما أنها ما قبضته فلا زال في ملك أبيها، وإنما هو مال الورثة- إذا مت الآن لن يكون من نصيبك ما قبضته بعد، فسيكون من مال الورثة، وإنما هما أخواك وأختاكِ؛ -الورثة- قالت: فقلت: فإنما هي أم عبد الله -تعني: أسماء ؛ يعني: أخواي عرفتهما، وأختاي مالي إلا أخت واحدة أسماء فمن الأخت الأخرى؟- قال: إنه ألقي في نفسي أن في بطن بنت خارجة جاريةً] و بنت خارجة : هي زوجة أبي بكر الصديق ، وهكذا حصل وصار لـعائشة أختٌ أخرى وورثت معها.
******************
عمر صاحب فراسة
أما عمر رضي الله تعالى عنه: فإنه رجلٌ أجرى الله الحق على لسانه وقلبه، وهو رجل ملهم محدث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (في أمتي ناسٌ محدثون، منهم عمر) محدث ينطق بالحق، وما يظنه عمر يكون حقاً في الغالب وصحيحاً، هذه فراسة إيمانية يلقيها الله في قلب من يشاء من عباده، ودخل عليه قومٌ من مذحج فيهم الأشتر فصعّد عمر فيه النظر وصوبه، وقال: أيهم هذا؟ قالوا: مالك بن الحارث ، قال: ماله قاتله الله؟ إني لأرى للمسلمين منه يوماً عصيبة، وبعد عمر حصل من الأشتر فتنة عظيمة على المسلمين فعلاً، عرف عمر ذلك من وجه الأشتر . ودخل المدينة وفدٌ من اليمن وكان عمر مع الصحابة في المسجد، فأشاروا إلى رجلٍ من الوفد، وقالوا لـعمر : هل تعرف هذا؟ قال: لعله سواد بن قارب ، فكان كذلك، يسمع به ولم يره، لكن لما رأى وجهه بالفراسة عرف أن هذا هو فعلاً فكان كذلك. وكان عمر رضي الله عنه يطوف في البيت، فسمع امرأةً تنشد في الطواف قائلة:
فمنهن من تُسقى بعذبٍ مبـردٍ نقاخٍ فتلكم عند ذلك قرت
ومنهن من تسقى بأخضرَ آجن أجاجٍ ولولا خشية الله رنت
من النساء من تشرب عذباً زلالاً، ومن النساء من تشرب أخضر أجاجاً معفناً، ريحه سيئة، فتفرس عمر رضي الله عنه ما تشكوه، ما هو مدلول كلامها؟ فبعث إلى زوجها فاستنكهه -أي: شم رائحة فيه- فإذا هو أبخر الفم، وبخر الفم مرض: عبارة عن رائحة في الفم كريهة مستمرة تكون في أفواه بعض الناس، لا يكاد يوجد لها علاج؛ لأنها شيء ذاتي جعلها العلماء من العيوب في الرجل التي تبيح للمرأة طلب الطلاق إذا لم تتحملها، كما يباح للمرأة مثلاً طلب الطلاق إذا كان الرجل عقيماً لا ينجب، هناك عيوب يجوز للمرأة بها طلب الطلاق، هذه جاءت تشكو إلى عمر ، وتقول:
فمنهن من تسقى بعذبٍ مبـردٍ نقاخ فتلكم عند ذلك قرت
ومنهنّ من تسقى بأخضر آجنٍ أجاجٍ ولولا خشية الله رنت
فلما أتى به عمر واستنكهه عرف القضية أنه أبخر الفم، فأعطاه خمسمائة درهم وجارية على أن يطلقها ففعل.
**************************
فراسة عثمان بن عفان
وأما عثمان رضي الله عنه، فله من ذلك أيضاً نصيبٌ جيد، فإنه حصل أن رجلاً مر بالسوق فنظر إلى امرأةٍ لا تحل له، فلما دخل على عثمان نظر إليه عثمان رضي الله عنه، قال: [يدخل رجل علينا، وفي عينه أثر الزنا -وزنا العينين النظر- فقال له الرجل: أوحيٌ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا. ولكن برهانٌ وفراسة] ومثل هذا كثيرٌ عن علي رضي الله عنه.
******************************************
القاضي إياس ممن اشتهروا بالفراسة
وممن اشتهر بالفراسة في التاريخ الإسلامي إياس القاضي رحمه الله، إياس القاضي لما تولى القضاء في البصرة فرح به العلماء، حتى قال أيوب : لقد رموها بحجرها. أصابوا الرجل المناسب في المكان المناسب، رموها بحجرها وجاء الحسن و ابن سيرين فسلمَّا عليه فبكى إياس وذكر الحديث: (القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وواحد في الجنة) فقال الحسن : وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ [الأنبياء:78] إلى قوله تعالى: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً [الأنبياء:79] ثم جلس للناس في المسجد واجتمع عليه الناس للخصومات، فما قام حتى فصل سبعين قضيةً حتى كان يشبه بـشريح القاضي ، وكان إذا أشكل عليه شيءٌ بعث إلى محمد بن سيرين فسأله عنه. هذا إياس القاضي رحمه الله له قصص عجيبة في الفراسة ذكرها العلماء رحمهم الله تعالى، ومن هذه القصص التي ذكروها أن إياساً القاضي جاءه رجلٌ استودع أمانةً من مالٍ عند آخر ثم رجع فطلبه فجحده، فأتى صاحب الحق إياساً فأخبره فقال له إياس : انصرف واكتم أمرك ولا تعلمه أنك أتيتني ثم عد إليّ بعد يومين، فدعا إياس المودع المؤتمن الذي جحد، فقال: قد حضر مالٌ كثيرٌ وأريدُ أن أسلمه إليك أفحصينٌ منزلك؟ قال: نعم. قال: فأعد له موضعاً وحمالين، وعاد الرجل إلى إياس ، فقال: انطلق إلى صاحبك فاطلب المال، فإن أعطاك فذاك، وإن جحدك فقل له: إني سأخبر القاضي. فأتى الرجل صاحبه، فقال: مالي وإلا أتيتُ القاضي وشكوت إليه وأخبرته بأمري فدفع إليه ماله؛ لأنه الآن لا يريد أن تتشوه سمعته عند القاضي، والقاضي وعده أن يضع عنده مالاً كثيراً وأن يجعله مقرباً منه، فدفع إليه ماله، فرجع الرجل إلى إياس فقال: أعطاني المال، وجاء الرجل الموعود إلى إياس في الموعد فزجره وانتهره وقال: لا تقربني يا خائن. وتقدم إلى إياس بن معاوية أربع نسوة فقال إياس : أما إحداهنّ فحامل، والثانية مرضع، والثالثة ثيب، والأخيرة بكرٌ. فنظروا فوجدوا الأمر كما قال: قالوا: كيف عرفت؟ قال: أما الحامل فكانت تكلمني وثوبها مرفوعٌ عن بطنها فعرفتُ أنها حامل، وأما المرضع فكانت تضرب ثديها، فعرفتُ أنها مرضع، وأما الثيب فكانت تكلمني وعينها في عيني، فعرفتُ أنها ثيب، وأما البكرُ فكانت تكلمني وعينها في الأرض فعرفتُ أنها بكرٌ. وكذلك من القصص التي حدثت له: أن شخصاً تحاكم إليه هو ورجلٌ آخر يدعي مالاً قد جحده الآخر، فقال إياس للمودع: أين أودعته؟ قال: عند شجرة في بستان -سلمته المال عند شجرة في بستان- فقال: انطلق إليها فقف عندها لعلك تتذكر، وفي رواية: هل تستطيع أن تذهب إليها فتأتي بورقٍ منها؟ قال: نعم. قال: فانطلقَ وجلسَ الآخر الجاحد عند إياس ، فجعل إياس يحكم بين الناس ويلاحظه ثم استدعاه فجأةً وقال له: أوصل صاحبك بعد إلى المكان؟ فقال: لا بعد أصلحك الله، فقال: قم -يا عدو الله- فأدِّ إليه حقه، وإلا جعلتك نكالاً، فقام فدفع إليه وديعته. وتحاكم إليه اثنان في جاريةٍ فادعى المشتري أنها ضعيفة العقل، فقال لها إياس : أي رجليك أطول؟ فقالت: هذه، فقال لها: أتذكرين ليلة ما ولدتِ؟ قالت: نعم. فقال للبائع: ردها ردها.. وكذلك قال الثوري عن الأعمش : دعوني إلى إياس فإذا رجلٌ كلما فرغ من حديثٍ أخذ في آخر، وكان ذلك من حاله رحمه الله تعالى.
*******************************************
[/size]